تحرير الكلام وتحرير المتكلمين-د. عبد الكريم برشيد /المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
 أنا الموقع أعلاه

تحرير الكلام وتحرير المتكلمين

  د. عبد الكريم برشيد    

هناك اليوم حروب على الحقيقة، ولعل أهم ما يميز هذه الحروب ـ السرية أو المعلنة ـ أنها حروب غير متكافئة، فهي حروب مسلحة ومدججة بالأزياء وبالأقنعة وبالأقلام المأجورة، وذلك في مواجهة الحقيقة العارية، ويمكن أن نتساءل اليوم، ماذا يمكن أن تصنع الحروف والكلمات والعبارات الصادقة وحدها ؟
ــ هل بإمكانها أن تقاوم الدمار الكوني القادم، والذي يتمثل في قتل الإنسان، وفي هيمنة الآلي على الحيوي، وفي سيطرة الوحشي عل المدني، وفي طغيان الواقعي على الحقيقي؟
ــ هل يمكن أن تحارب النظام العالمي الجديد، بنفس تلك الدواوين الشعرية الممتلئة غنائية وخطابية، وبنفس تلك القصائد النثرية المـتأنقة والمتحذلقة، وبنفس تلك المسرحيات والمقالات الغاضبة والنارية القديمة؟
ــ وهل يمكن لهذه الأجناس الأدبية والفنية، أن تستعيد الزمن الذي كان، وأن تحارب هذا النظام العالمي الجديد، تماما كما حاربت بالأمس ـ وقبل الأمس ـ النظام العالمي القديم، والذي كان متمثلا في الإمبريالية العالمية وفي أتباعها وعملائها والمسبحين بحمدها؟ أو في محاربة الاستقطاب الإيديولوجي، سواء من طرف هذا المعسكر أو ذاك؟
ــ وهل يمكن للكتاب ـ في ظل هيمنة تجار الكتاب وسماسرته والمتحكمين في أسواقه ودكاكينه ـ أن يستعيد دوره التقليدي القديم، وأن يسترد سحره وجاذبيته، وأن يكون بمقدوره أن يعالج، وأن يرد الأمراض التي تصيب الإنسان في إنسانيته، وأن يدفع الأدواء التي تمس الكائن الحي في حيويته، و تجرد المواطن في المدينة، من علاقاته وروابطه ومن حقه  الطبيعي في الإحساس بالحرية وبالوجود الحق في الكرامة ؟
هذا نموذج فقط، من فيض الأسئلة الجديدة والمتجددة، والتي تطرح نفسها اليوم بإلحاح شديد، والتي تحتاج لأن نواجهها بصدق وشجاعة، وأن نتسلح بالمعرفة والعلم، وبالفن والذوق السليم.
إننا نحمل الكلمات ـ عادة ـ أكثر مما تحتمل ـ و من الكلمات التي تحمل مدلولا قدحيا مضافا، نجد كلمة النرجيسية، و هي كلمة تحتاج لأن نعيد النظر إليها، وذلك بعيون جديدة، وفي ضوء الثقافة المغاربية، والتي هي ثقافة عربية وأمازيغية وإفريقية ومتوسطية وموريسكية متعددة ومتنوعة..
وحتى أعيد لهذه الكلمة مدلولها الحقيقي، فإنني ـ وبالمناسبة ـ أسوق لكم حكاية من حكايات الصين القديمة، فهذا إمبراطور صيني كبير ـ اسمه لا يهم ـ قرر أن يزوج ابنته الوحيدة من رجل ذي مواصفات خاصة؛ رجل غير أناني وغير نرجيسي، وغير معجب بذاته ونفسه، ولكي يهتدي إلى هذا الرجل المثالي، فقد أمر أن تنصب في الشارع العام مجموعة كبيرة من المرايا العملاقة، وبعد أن نفذ الأمر، وقف الإمبراطور في شرفة قصره ليطل على الناس، وهم يقطعون الشارع الطويل، جيئة و ذهابا، وكان كل واحد يمر بقرب تلك المرايا يجد قوة غريبة تدفعه إليها دفعا، وبذلك فقد كانت تلك المرايا تمارس سحرها وجاذبيتها على كل الناس، فكان كل واحد يتوقف عندها، لحظات قد تطول، وقد تقصر .. يتوقف من أجل أن يتأمل حسنه وبهاءه ، أو من أجل أن يطمئن على زيه و( شياكته)
وأمام هذه المشاهد المتكررة ـ في تنوعها ـ صاح الإمبراطور الصيني في غضب :
ــ كل هؤلاء الرجال لا يصلحون لابنتي، إنهم أنانيون وتافهون، أريد رجلا لا يعبأ بحسنه ولا بهندامه؛ رجلا يمر من أمام هذه المرايا المغرية من غير أن يلتفت إليها.
وبعد أيام طويلة من الانتظار والملاحظة والترقب، جاء العريس المنتظر، وكان بالفعل رجلا غريبا في كل شيء .. في شعره الأشعث وفي لباسه وفي مشيته، لقد مر بالقرب من المرايا ورأسه مطرق إلى الأرض، الشيء الذي جعل الإمبراطور يصيح في فرح :
ــ أخيرا وجدته .. وجدته، فهذا هو العريس المطلوب، وأريد أن تحضروه لي حالا، وتزوج الرجل الغريب الأميرة، وذلك اعتمادا على أنه غير أناني وغير نرجيسي، وعلى أنه لا ينظر إلى المرايا، ولا يسألها عن حسنه وجماله، ولكن الحقيقة كانت عكس هذا تماما، وذلك لأن هذا الرجل، لم يكن إلا  شاعرا من قبيلة الشعراء المجانين، وقد صادف أنه ـ وقت مروره بالمرايا ـ قد كان مشغولا بالنظر إلى مراياه الداخلية الأخرى .. والتي هي مرايا غير مادية وغير حسية، والتي لها ـ مع ذلك ـ وجود حقيقي في نفسه ووجدانه وروحه، وكان هذا أكبر دليل على أننا (كلنا) نرجيسيون، سواء بهذا المعنى أو بذاك، أو بهذا القدر أو بغيره، وأن أخطر نرجسية ممكنة ـ و أنبلها أيضا ـ هي تلك التي نجدها عند الفنانين والشعراء والصوفيين والمناضلين، أي عند أولئك الذين تشغلهم المرايا الداخلية عن النظر والتأمل في المرايا الخارجية؛ هذه النرجيسية الجميلة والنبيلة، هي التي سماها المرحوم علال الفاسي في كتابه ( النقد الذاتي ) باسم الأنانية السعيدة..



 
  د. عبد الكريم برشيد /المغرب (2011-03-21)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

تحرير الكلام وتحرير المتكلمين-د. عبد الكريم برشيد /المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia